الأحد, أكتوبر 27, 2024
Home » المشكلات والحلول 3

المشكلات والحلول 3

كتبه أبو عمر الأزهري

الغشُّ خداع للنَّفس وخيانة للأمانة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

وبعد: فمن خلال عرض الطلاب في بعض المسابقات القرآنية عبر وسائل التواصل، تبين لي بما لا أشك معه أن اثنين من الطلاب كانا يعرضان من مصحف هاتفهما؛ وهذا غش وخداع لا ينبغي أن يصدر من الحافظ، وهذا المسلك دالٌّ على قلة المراقبة، وضعف الضمير، والاتكال والكسل، وعدم الأخذ بالأسباب.

والذي أكد لي وقوعهما في مستنقع الغش والمخادعة أني كنت أستدرجهما بسؤالهما عن عدد آيات السورة، وأرقام بعض الآيات المقروءة كان يأتي بها على نحو صحيح يؤكد أنه وقع في الفخ حيث يذكر الرقم بعد النظر في المصحف، ولما سألتهما هل تحفظ بأرقام الآيات كانت الإجابة مهزوزة مضطربة.

وقد أردت أن أتأكد فسألت أحدهما هل تجد ألفا أمامك في المصحف الآن فلم يتردد وأسرع في الإجابة بالإيجاب؛ فتبين لي غشه، وقد تأثرت درجتها كثيرا مع عدم وقوع الأخطاء منهما أثناء العرض، والسبب أن الجرأة على الغش لا تُبقي للحافظ حسنة، حيث اختلط المحفوظ بغيره، ولما رغب في الحصول على الدرجة العالية بوسيلة محرمة عوقب بنقيض قصده.

ومن العجب أن ترى طالبا يلحن في التشكيل والإعراب لحونا شديدة ثم هو يعرف أرقام الآيات وجملة من التفاصيل التي لا يتمكن الحافظ من إدراكها بسهولة، فلا ينبغي للطالب أن يتعامل بهذه الطريقة مع القرآن الكريم، ويظن أنه ينجو بفعلته، ويتحقَّق له الفوز غير المستحق.

وعلاج هذه الظاهرة يكون من ناحيتين:

الناحية الأولى: المعالجة الخارجية، وتتمثل في الإدارة والإشراف وهيئة التعليم، فهذه الجهات مطالبة ببذل ما في وسعها لمعالجة هذه الظاهرة المتفشية في أوساط الطلاب في الآونة الأخيرة، ويمكن اتباع الخطوات العلاجية التالية:

أولا: لابد للمعلم أن يكون حصيفا خبيرا بحال طلابه؛ فإذا شعر تغيرا في مستوى أحدهم من التوسط في العرض إلى القوة والسلامة من الأخطاء فيمكن أن يكون التغيير بسبب الغش والنظر في المصحف، والأصل أننا نثق في جميعهم، لكن لا يمنع أن نأخذ بالأحوط لنعينه على نفسه من خلال القيام ببعض الخطوات في معالجة من شعرنا بتجاوزه للقيم السلوكية بالغش واستراق النظر؛ ومصارحة الطالب بما وقع في النفس من غشه واستراقه النظر ليس وجيها؛ لأنه يفتح بابا من أبواب الشر؛ فالأمر تخمين وتوقع لا يصل إلى درجة اليقين، وقد لا يكون صحيحا، فينتج عن المصارحة شيء في نفس الطالب يحول بينه وبين الاستمرارية مع المعلم لأنه يرى أنه لا يثق فيه، ويتهمه بتهمة هو بريء منها، فمفسدة المصارحة ظاهرة لا تخفى، لذا يمكننا أن نتبع الخطوات العلاجية التالية:

ثانيا: العمل على تقوية معاني المراقبة في النفس من خلال التحدث عن عظم وسعة علم الله تعالى وإحاطته بعباده، وأنه سبحانه مطلع علينا يرى أفعالنا ويسمع كلامنا، فينبغي ألا نستخف بنظره سبحانه إلينا، ويكون الكلام في معرض التعليق على آية؛ كقوله سبحانه: “يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا” [النساء: ١٠٨].

ثالثا: التحذير من الغش تلميحا من خلال الحديث عن مساوئ الغش والخداع، وأنه يُعد كذبا صريحا على النفس، والمسلم لا ينبغي أن يتصف بتلك الصفة الذميمة التي تدل على ضعف في إيمان المرء، وخوار في شخصيته، مع بيان تحذير النبي ﷺ من الغش في نحو قوله ﷺ: “من غش فليس مني”.

رابعا: يُطالب الطالب بفتح الكاميرا تحججا برغبة المعلم في التأكد من عملية توجيه شفتي القارئ أثناء النطق لوقوع بعض الأخطاء بسبب التعليم عن بعد، فتكون الكاميرا بمثابة المعالجة لهذه الأخطاء، ومن خلال فتح الكاميرا يظهر للمعلم مدى صدق حدْثه وتوقعه؛ لأن عرض الطالب حينئذ يكون أحد أمرين:

الأول: نقص مستوى الإجادة من خلال المقارنة بين عرضه قبل وبعد عملية المكاشفة، بشرط أن يكون الطالب قد سبق له عرض المقروء قبل ذلك بطريقة مختلفة، فإن لم يكن عرضه من قبل فلا يُستدل بتغير مستوى العرض على غشه، لأن هذا الموضع خاصة قد يكون من مواطن ضعفه؛ فلا يُؤاخذ بالظنون.

الثاني: ثبات مستوى العرض بالمقارنة بين ما قبل فتح الكاميرا وما بعد فتحها دون حصول ما يؤكد الغش من تقليب النظر يمينا ويسار وأسفل الشاشة، وعليه نحكم بفساد التوقع، ونجنح إلى الأصل وهو صدق الطالب وأمانته.

الناحية الثانية: المعالجة الشخصية الذاتية؛ وتتمثل في قيام الطالب – الذي أدمن الغش ويرغب في التخلُّص منه – ببعض الخطوات العلاجية بهدف تجنُّب الوقوع في هذه الجريمة الأخلاقية التي تعكس مؤشر المراقبة في قلبه، ولا سبيل لنجاته من غِبّها وآثارها حتى ينتفض لتغيير هذا السلوك المُشين، ويمكن تحديد هذه الخطوات العلاجية فيما يلي:

أولا: البعد عن أسباب الحاجة إلى الغش؛ وذلك من خلال التحضير الجيد المسبَّق ليكون جاهزا للعرض في الوقت المقرر، بالمقدار المقرر، وبطريقة قوية صحيحة، فغالب من يتجاسر على الغش دعاه إليه تقصير في التحضير وقلق من الخطأ.

ثانيا: تنمية الثقة بالنفس في الاعتماد على الحفظ من الذاكرة، فلا يكفي أن يُحضِّر الحافظ قبل الموعد بما يكفي، بل لابد من علو مؤشر الثقة في الحفظ ومهارات العرض؛ فلا يرتبك ولا يخف من سوء العرض بسبب ضعف الشخصية أو الثقة في النفس فيُضطر مع هذا الشعور إلى فتح المصحف.

ثالثا: هجر الوسائل المعينة على الغش؛ وذلك من خلال إبعاد المصحف عن يد الحافظ أثناء العرض بحيث لا يكون معه في غرفة واحدة، بل يصر على نقله إلى غرفة أخرى، وكذلك حذف المصحف الالكتروني من الهاتف حتى لا تحدث النفسُ الحافظ باستعمال الوسائل المتاحة للغش والتدليس؛ فسهولة وسائل المعصية يُسهِّل فعلها واقترافها؛ لذا نهينا عن الاقتراب من أسباب ووسائل الحرام؛ لأن النفس ضعيفة والفتنة خطافة.

رابعا: إلزام النفس بالظهور عن طريق استعمال الكاميرا ولو لم يطلب المعلِّم لإخراج النفس ومحاصرتها فلا يتمكن من الغش وهو يُدرك أن عينا بصيرة ترقبه وتتابعه، ولن تمرِّر له خللا أو تجاوزا، فحينها ترتدع النفس وتهجر الخطأ؛ خشية أن يُؤثر عنها ما يُشينها، وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

خامسا: مُصارحة النفس بالأهداف السامية للحفظ والالتزام به؛ فإن النفس حين تُدرك سموَّ الأهداف التي تتحقق من وراء الأعمال تنشط إليها، وتسعى للإتيان بها على الوجه الصحيح الرشيد، فإذا كان الهدف شريفا والغاية مشروعة لم يجز أن تتم بوسائل ملتوية بعيدة عن الشرف والشرع.

والأصل أن هذا السلوك لا يقع من الطالب؛ لأن العاقل يُدرك أن هذا لا يُفيد الحافظ بشيء بل يهدم مستواه وينقض أركان الحفظ لديه؛ لأنه لا يبني مستواه، بل يُخادِع نفسه دون حاجة لهذا؛ فالطالب ما شارك في العمل القرآني إلا عن طيب نفس، وتحقُّق رغبة، وليس في العمل ما يفرض عليه من العقوبات ما يجعله يتفنن في الهروب منها بالتحايل والغش؛ من أجل هذا فإننا نعتبر أن الأصل في الحافظ الصدق والأمانة ما لم تظهر القرائن التي توقع الشك في قلب المعلم تجاه الطالب؛ كالاستماع إلى تقليب صفحات أثناء العرض، أو التلعثم والبطء في القراءة كأنه يتهجى، أو الخطأ ثم التعديل الفوري دون تدخل من المعلم، أو الاستماع إلى صوت منخفض كمن يُملي ويُلقّن، فهذه وغيرها أدلة قوية على وقوع الغش من الطالب، ولا نجزم بوقوعه بل نشك ونسعى للمعالجة بالتلميح، فإن حصل اليقين بتلاشي الشك وإلا فالتصريح والتوجيه المباشر.

قلَّة الوازع الديني عند البعض حمله على فتح المصحف أثناء العرض لاسيما إذا انشغل عن التحضير والتجهيز، وهذا أمر في غاية الخطورة حين يتصرف الحافظ بهذه الطريقة، وهذه من آفات التعليم سواء كان مباشرا أو عن بعد، لكنه يسهل في التعليم عن بُعد؛ لما تتصف به بيئة التعلم الالكتروني من انعدام العين البشرية البصيرة المراقبة للمشهد التعليمي والتي يهابها الدارس ويخشى من وقوعها على ما يؤذيه.

ولعل الذي سهَّل على الناس أمر الغش والخداع ما تربى عليه كثير من الأجيال من رؤية الغش المتفشِّي في جنات المجتمع المسلم، كالغش في البيع والشراء باسم المهارة، وفي التعليم باسم الذكاء والجدارة، وفي السياسات باسم الخبرة والجسارة، فنشأ جيل لا يرى غضاضة في ارتكاب هذه الجريمة؛ مع علمه بخطورتها، لكن الجرم الذي يلصقه المجتمع بمرتكبها شكلي إنشائي، فلا يترتب عليه ردع أو زجر، فالله المستعان.

وختاما: نسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، وأن يُحيي قلوبنا بالمراقبة والخوف من معصيته، وأن ينزع من قلوبنا الخوف ممن سواه؛ فمن الناس من يخاف من الناس أكثر من خوفه من الله تعالى؛ فينتج عن هذا جرأة على حرمات الله في السر دون الجهر خشية عيون الناس، وفي هذا يقول الله تعالى: “يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا” [النساء: ١٠٨] فليحذر المسلم من الجرأة على الحرام مستخفا بنظر الله إليه؛ قال تعالى: “الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ” [الشعراء: ٢١٨] وقال سبحانه: “أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ” [العلق: ١٤].

   

You may also like

Leave a Comment

المعهد القرآني العالي هو مؤسسة تعليمية متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم ومدارسته، ملتزمة بتخريج طلاب متمكنين في تلاوة وحفظ الكتاب العظيم وفق أحكام التجويد.

يسعى المعهد إلى تعزيز فهم الطلاب للقرآن من خلال دراسات معمقة تشمل التفسير والعلوم القرآنية، مما يمنحهم بصيرة أعمق في معاني الآيات الكريمة.

يقدم المعهد بيئة تعليمية داعمة ومشجعة، حيث يتم التركيز على تنمية الروح الإيمانية والأخلاق الحميدة لدى الطلاب، مما يساعدهم على تطبيق تعاليم القرآن في حياتهم اليومية.

Edtior's Picks

Latest Articles

المعهد القرآني العالي – جميع الحقوق محفوظة © ٢٠٢٤