الثلاثاء, أكتوبر 29, 2024
Home » نظام العمل في رمضان 2

نظام العمل في رمضان 2

كتبه أبو عمر الأزهري

أقسام النَّاس مع التَّعليم القرآنيِّ

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

وبعد: فإنَّ شهر رمضان نفحة إلاهيَّة، وهديَّة ربانيَّة؛ المَردة فيه مسلسلة، والشَّياطين فيه مغلَّة، المجتمع يتحوَّل في كلِّ مشاهده إلى محفِّز كبير على الطَّاعة، ويجد المرء فيه عونًا على تحسين البضاعة، والاستعداد بالعمل الصَّالح للسَّاعة.

ومع كلِّ هذا ينقسم حفَّاظ المسلمين – الواقفون على ثغر القرآن الكريم بالحفظ والمدارسة – في هذا الشَّهر الكريم إلى قسمين:

الأول: يُجمِّد العمل القرآنيَّ التَّعليميَّ بحجَّة التَّفرُّغ النِّسبيِّ للعبادة والقراءة المتواصلة؛ لتحصيل الأجور الكثيرة المترتِّبة على قراءة الحروف القرآنيَّة، فرمضان موسم طاعة تُضاعف فيه الأجور، ويسهل على النَّفس فيه ما لا يسهل في غيره.

وهؤلاء جانبهم الصَّواب في المفاضلة بين الطَّاعات، فالعابد العاقل الموفَّق في مواسم الخيرات، وأوقات البركة لا يتوقَّف عن العبادات التي أثبتها قبلها، بل يصحبها مُضيفًا إليها غيرها؛ لأنَّ الثَّبات على طاعة زمنًا أولى من إنشاء طاعة جديدة مدَّة يسيرة؛ فالطَّاعة كلَّما طالت مع العابد أثَّرت فيها وأثمرت وأنتجت، بخلاف الطَّاعات السَّريعة الزَّمنيَّة الوقتيَّة فأثرها لا يُقارن بأثر طويلة الزَّمن والمدَّة.

إنَّ النَّاظر بعين النَّاصح الأمين إلى واقع النَّاس المجمِّدين للعمل القرآنيِّ التَّعليميِّ في الشَّهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم يُدرك أنَّ الثَّبات عزيز؛ فقد يُصرف العابد إلى عمل مفضول عن عمل فاضل، وينتج عن هذا تثاقله عن العمل الفاضل بعد انصرام زمن الاشتغال بالعمل المفضول، وكثير ما وقفنا على شهادة هؤلاء على أنفسهم بأنَّهم لم يفعلوا ما كانوا مخطَّطين له، فلم ينتفعوا بالمدارسة التَّعليميَّة، ولم ينتفعوا كذلك بالقراءة التَّعبُّديَّة.

إنَّ محاولات الشَّيطان في إضلال الإنسان كثيرة جدًّا؛ فهو مكَّار خدَّاع يتعامل مع كلِّ أحد بما يُمكِّنه من الظَّفر به، ومن خططه الخبيثة إشغال العابد بالمفضول عن الفاضل، وبالوقتيِّ المنتهي عن الدَّائم المستمرِّ، لاسيِّما في مواسم الطَّاعات وأزمنة البركات، فيُوهم المرءَ بقدرته على تحطيم الجبال وتفتيت الصُّخور وهو بذلك يُمنِّيه ويُرديه، ويخرج المرء بخُفي حُنين لم ينتفع، وإنَّ المنبتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى.

إنَّ الآثار الواردة في اشتغال السَّلف بالقرآن الكريم في شهر القرآن وإغلاق الدَّكاكين، والتَّوقُّف عن مدارسة العلم لا ينسحب على القرآن الكريم؛ ففرارهم من كلِّ ما سوى القرآن الكريم إليه، إنَّه فرار تفرُّغ للقرآن الكريم بحيث لا تُزاحمه أعمال ولو كانت في العلوم الشَّرعيَّة والمعارف الدِّينيَّة، ولهذا نرى أنَّهم كانوا يفرُّون من أعمال الدُّنيا أو العلم سوى القرآن الكريم، فلم نقف على أنَّ أهل القرآن أوقفوا حلقاتهم، أو صرفوا الطُّلَّاب عن القراءة والإقراء؛ لأنَّ من جملة اصطفاء الله تعالى لأهله أن شغلهم بالقرآن الكريم طول حياتهم، فلم يحتاجوا إلى التَّفرُّغ له في أيَّام معدودة أو شهور معلومة، فحياتهم كلُّها قرآن، وهذا ما يُفسِّر تمنِّي العلماء المشتغلين بالعلوم الأخرى عند موتهم أن لو كانوا ممَّن شُغلوا بالقرآن الكريم عن غيره من العلوم؛ لأنَّهم قوم قد استبان لهم عظيم فضل الله تعالى لأهل القرآن بالاشتغال بمصدر الهداية، ونبع النُّور، ومحلِّ الخير.

وليس معنى ما سبق أنَّ أهل القرآن يكتفون بما كانوا عليه قبل رمضان، بل تراهم يُسارعون في التَّنافس في الخيرات بالإكثار من القراءة والختم، ولأنَّهم ألصق النَّاس بالقرآن الكريم لمصاحبتهم له على مدار العام فهم أكثر النَّاس معرفة بكلماته وأحكامه وقراءاته ومعانيه، فيحصل لهم من الخير ما لا يحصل لمن سواهم، فنراهم يُكثرون من الختمات، ومع هذا يجمعون إليه التَّعليم والإفادة؛ لأنَّه قرآن أيضًا، فالمقروء والمسموع = قرآن كريم يؤجر المرء عليه بتوفيق الله تعالى.

الثاني: ينشط للعمل القرآنيِّ التَّعليميِّ؛ مستثمرًا للنَّفحة الإيمانيَّة، والأجواء التعبُّديَّة، ومعتمدًا على أنَّ مدارسة جبريل – عليه السَّلام – للنَّبيِّ ﷺ القرآن الكريم كانت في شهر رمضان، وهذا يقطع الطَّريق على كلِّ من يُنادي بتجميد العمل القرآنيِّ التَّعليميِّ في رمضان، ففعل النَّبيِّ ﷺ قدوة وأسوة ومخالفته فتنة؛ فقد كان يُدارسه جبريل في كلِّ رمضان من العام؛ ففي الصَّحيحين عن عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: “كان رسول الله ﷺ أَجْوَدَ الناسِ، وكان أَجْوَدَ ما يكونُ في رمضانَ حِينَ يَلْقاهُ جبريلُ، وكان يَلْقاهُ في كلِّ ليلة مِن رمضانَ فَيُدارِسُه القرآن، فَلَرسولُ الله ﷺ أجْوَدُ بالخير من الريح المُرسَلة”

وممَّا ينبغي أن يُدرك في هذا الأمر أنَّ الأجر ثابت لجميع حروف القرآن الكريم بعدد الحروف، بمعنى أنَّ من ختم القرآن الكريم ختمة كاملة في الأجر كمن قرأ جزءًا واحدًا ثلاثين مرَّة، ومعنى هذا أنَّ من اشتغل بمراجعة أوراده وأحزابه القرآنيَّة عن الختم فلم يفته أكثر ممَّا حقَّقه، بل إنَّ ما تحقَّق له أعظم ممَّا فاته؛ لأنَّه حصَّل أجرًا، وثبَّت حفظًا، فتفطَّن.

         وحرَّره
          أبو عمر الأزهريُّ
           عميد المعهد القرآنيِّ العالي
            حامدًا ربَّه ومُصليًا على نبيِّه ﷺ.

You may also like

Leave a Comment

المعهد القرآني العالي هو مؤسسة تعليمية متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم ومدارسته، ملتزمة بتخريج طلاب متمكنين في تلاوة وحفظ الكتاب العظيم وفق أحكام التجويد.

يسعى المعهد إلى تعزيز فهم الطلاب للقرآن من خلال دراسات معمقة تشمل التفسير والعلوم القرآنية، مما يمنحهم بصيرة أعمق في معاني الآيات الكريمة.

يقدم المعهد بيئة تعليمية داعمة ومشجعة، حيث يتم التركيز على تنمية الروح الإيمانية والأخلاق الحميدة لدى الطلاب، مما يساعدهم على تطبيق تعاليم القرآن في حياتهم اليومية.

Edtior's Picks

Latest Articles

المعهد القرآني العالي – جميع الحقوق محفوظة © ٢٠٢٤