الأحد, أكتوبر 27, 2024
Home » فنون الإقراء ومهارات الأداء

فنون الإقراء ومهارات الأداء

كتبه أبو عمر الأزهري

مراتب المقرئين في مجالس القراءة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.

وبعد: فإن الشيوخ رزق من الله تعالى، ومن أجلِّ نِعم الله على العبد أن يهديه لشيخ حاذق، ماهر، أربٍ، ذكيٍّ، متطوِّر، متحرِّر من أسر التَّقليد، بل يترقَّى في درج الإبداع والانتفاع، ولا يتوقَّف عن القراءة والإقراء، والتَّعلُّم والتَّعليم؛ فإن هذه العوامل – وغيرها – مما يُنتج فروقًا كبيرة ملحوظة بين القرَّاء في ميدان القراءة والإقراء؛ فمع أقلِّ نظرة لواقع المقرئين يسهل تحقيق اليقين بتفاوُت المقرئين واختلاف رتبهم؛ ويمكن تقسيمهم إلى قسمين:

الأول: العالم المقرئ الجامع بين النَّظريَّة، والأداء، والخبرة، والمهارة، وهذا بأفضل المنازل وأهلاها، ومن حصَّله فليعضَّ عليه بالنَّواجذ لا بمقدَّم الأسنان، متمسِّكًا متعلِّمًا منتفعًا مستفيدًا، فمثله لا يُحصَّل ولو بالكنز.

الثاني: من تنقص لديه جزئيَّة من مؤهِّلات المقرئ المتقن، حتى نصل إلى مقرئ فاقد لمؤهِّلات الإقراء والتَّصدُّر، لكنه تعجَّل الجلوس للتَّعليم والإقراء فأوقع نفسه في حرج، وأفسد ميدان القراءة، وأضعف مستوى تلاميذه ومَن قصده، ولو أنه صبَّر واصطبر، وتأنَّى وادَّكر، وذاكر وتدبَّر، وحرَّؤ المسائل وقرَّر، لكان خيرًا له وأقوم، ولكنَّ العجلة لا تأت بخير.

وكما أنَّ الشُّيوخ رزق وعطيَّة، فالطُّلَّاب منحة وهديَّة؛ فمن عظيم إكرام الله تعالى للعالم أن يرزقه طالبًا جادًّا، حريصًا، منتفعًا، باحثًا عن العلم، راغبًا في تحصيله، له لسان سؤول، وقلب عقول، وهمة لا يخفت لهيبها، ولا ينطفي سراجها، فلا يبرح هذا الطَّالب حتى يكون سببًا في رفعة العلم الذي يطلبه، والشَّيخ الذي يتعهَّده، ويشرف كلُّ من انتسب إليه واتَّصل إليه بسبب من قرابة جغرافيَّة، أو علميَّة، أو نسبيَّة، أو مصاهرة، أو صداقة، فكم من شيخ ارتقى بطالبه؛ قال ابن الرُّومي:
كم مِن أبٍ قد عَلا بِابنٍ ذُرَى شرَفٍ … كَمَا عَلَت بِرسَولِ اللهِ عَدنَانُ

وعلى النَّقيض من هذا نرى طالبًا كفيلًا بإسقاط نفسه، وشيخه، ووالديه، وكلِّ من انتسب إليه بصلة؛ لضعف مستواه، ورداءة أدائه، وفساد علومه، وانعدام أمانته، وركاكة أسلوبه، وبلادة فكره، فمثل هذا يُعدُّ ابتلاءً للكلِّ، وكم من طالب سقط شيخه بسببه؛ فأصبح سُبَّة له يُطعن فيه من أجله.

إن حضور ميادين الإقراء العامَّة والخاصَّة كفيل برؤية البون الشَّاسع بين المقرئين في إفادة الطُّلَّاب بالتَّعليق النَّافع المفيد؛ من خلال ذكر معلومة تفسيريَّة أو نحويَّة، أو بيانيَّة، أو في المتشابهات النَّصِّيَّة، أو في الفقه والمسائل، أو في التَّجويد ودقائقه، والقراءات ودررها، أو التَّحريرات وبحورها، المُهمَّ أن كلَّ هذا يتعلَّق بالآية المقروءة دون خروج أو استطراد مفسد للمجلس، بل يُنعشه ويُحييه بمثل هذه التَّنبيهات، ويدفع الملل لدى القارئ، ويُزيل الوحشة النَّاتجة عن شعوره بالإنفراد في المجلس؛ لقلَّة تفاعل الأستاذ معه، فربَّما أخطأ الطَّالب دون ردَّة فعل من المعلِّم، ويزداد الأمر سوءًا إذا كان التَّعليم عن بُعد، والإقراء غير مباشر؛ فانعدام الرُّؤيَّة بين المعلِّم والمتعلِّم يزرع بينهما شعور يجرُّهما إلى السَّرحان، وشرود الذِّهن، وتشتُّت التَّركيز، والانجراف مع النَّفس وهواها، وقليل من يفعل ذلك ويُعنى به.

والنَّاظر في إفادات المقرئين ومضامين تعليقاتهم يراها متفاوتةً في الزَّمن طولًا وقصرًا، وفي المضمون والمحتوى كذلك؛ فمنهم من تنحصر تعليقاته في باب الوقف والابتداء، ومنهم من عُرف بالعناية الأتمِّ بالمخارج والصِّفات، ومنهم من تتَّجه تعليقاته إلى التَّفسير والمعنى، ومنهم من يصبُّ اهتمامه على النَّحو والإعراب والبلاغة القرآنيَّة للنَّظم، ومنهم من ينتقل بين هذه كالنَّحلة تجوب البساتين، وتنتفع برحيق أزهارها، وبالحملة فإنَّ تعليقات المقرئ لا تخرج عن دائرة اهتمامه، ونطاق قدراته، ومحيط تخصُّصه؛ فالمقرئ اللُّغويُّ يولِّي النظم عنايته، والمقرئ المفسِّر يُعنى بالمعاني وبيان آراء المفسِّرين كلما سنحت له الفرصة، وهكذا تتأثَّر ميادين الإقراء بميول المقرئ وعلومه ومعارفه، ووصيَّتي للقارئ أن يختار المقرئ الذي يُعنى بما يُتمِّم له ما نقص لديه، أو يجمع بين أكثر من مقرئ عُنوا بأكثر من جانب؛ لحصول الشُّموليَّة في المعرفة والتَّلقي، فمن كثر شيوخه تنوَّعت علومه، وتعدَّدت فهومه، واتَّسعت مداركه، وظهر نجمه وبزَّ أقرانه من الموحِّدين للشُّيوخ؛ فتعديدهم نعمة كبيرة.

وفي هذا المقام لا ينبغي أن نغفل عن رعاية مستوى المقرئ قبل الإقبال على اختياره للقراءة عليه والتَّحمُّل عنه؛ فالمستوى العلميُّ والتَّحصيليُّ يتفاوت فيه الشُّيوخ تفاوتًا كبيرًا، وبناءً على المستوى يأتي التَّوجيه، ويصدر التَّعليق؛ ففاقد لا يُعطيه، والمُكره على الشَّيء لا يُبدع فيه، من هنا نرى شيخًا يُعلِّق على جملة لم يُعلِّق عليها من سبقه من الشُّيوخ والأساتذة، والعلَّة تكمن في تفاوت المستوى بينهما؛ فالمقرئ إذا كان مطَّلعًا على القواعد النَّظريَّة، وملِّمًا بالمهارات الأدائيَّة الذَّاتيَّة والخارجيَّة، وممارسًا للمهمَّة التَّعليميَّة التي تّكسبه الخبرة، وتجعله قادرًا على معرفة الشَّائع من الأخطاء، وكيفيَّة تفاديها، بخلاف ما لو كان جاهلًا ضعيفًا في كلِّّ هذه الجوانب أو بعضها، فلا يتمكَّن من التَّعليق أو البيان، بل يكتفي بالاستماع المجرَّد من كل ردٍّ أو تصويب، وحينها يقع في نفس القارئ من المعاني ما يحمله على النُّفور من هذا المعلِّم إلى آخر يجد عنده بُغيته وحاجته.

وفي ذات الوقت أُحمِّل كثيرًا من الطُّلَّاب مسئوليَّة عدم الاستفادة من المعلِّم؛ من خلال العجلة المفرطة في القراءة، أو قلَّة الوقت المخصَّص، أو ضعف المتابعة والاستمراريَّة، أو الانشغال عن معالجة المشكلات الأدائيَّة بالتَّدريب والتَّكرار، أو مخالفة وصايا المعلِّم وعدم الامتثال لما يراه، أو انعدام السُّؤال والتَّفاعل بما يُثري الحلقة القرآنيَّة، أو اعتماد الجدال والمعارضة كأسلوب عامٍّ في التَّعامل مع المعلِّم، أو نقص الأدب والاحترام والتَّقدير لفارق السِّنِّ أو المستوى الوظيفيِّ أو الاجتماعيِّ، ونحو هذا من أسباب تجعل الطَّالب عقبة كؤودًا في طريق التَّعلُّم والانتفاع بعلم شيخه ومعلِّمه، وعلى الطَّالب معالجة كل جوانب القصور لديه لتتحقَّق له المنفعة العلميَّة والأدائيَّة.

وهناك جملة من المعايير التي يمكن استخدامها كمؤشِّر لقياس مدى الاستفادة والانتفاع بالمعلِّم، وهذا بيانها:
1 – انشراح الصَّدر في مجلسه، والشَّوق المتجدِّد لموعده؛ لما يشعر الطَّالب وجدانيًّا من التَّعلُّق والارتباط؛ لوقوع الاستفادة، وأعلاها= الرَّاحة النَّفسيَّة، والشُّعور بالأمان التَّعليميِّ.
2 – وقوع التَّعليق من المعلِّم وقت الحاجة إليه؛ فلا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فالخطأ الواقع من الطَّالب في الحفظ، أو الأداء، أو تَّعبير لا يُمرِّر حتى لا يستقرَّ في النَّفس، فقيام المعلِّم بهذا هو التزام بواجبات الأمانة التَّعليميَّة، وتركها خيانة عظيمة.
3 – الشُّعور الذَّاتيُّ بتحسُّن القراءة والارتقاء في مراتبها ودرجاتها؛ عن طريق تيقُّن القارئ من تلاشي الأخطاء الحفظيَّة أو الأدائيَّة التي لطالما أجهده تصويبها دون نتيجة ملموسة، ويؤيَّد الشُّعور الذَّاتيَّ شهادات الغير ممَّن لهم دراية بالقراءة وفنونها، ومعرفة بمستوى القارئ قبل وبعد التَّعلُّم؛ فشهادتهم دالَّة على صِدق ما وقف عليه القارئ من تطوُّر مستواه.
4 – طرح التَّساؤلات العلميَّة بينهما ومناقشتها أثناء مجلس الإقراء؛ ففي مثل هذا من الفوائد ما لا يمكن حصره، ولو كتب القارئ كل ما يسمع من علم لأصبح عالمًا يجمع شوارد ونوادر المسائل، وبه ينتفع قوم آخرون حين يتصدَّر وينقل علوم شيخه.

ومن الجدير بالذِّكر الانتباه إلى أنَّ صمت الشَّيخ عن التعليق على القراءة لا يُختزل في شيء معلوم، بل تتعدَّد مبرِّرات الصَّمت التَّعليميِّ، ويمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:
1 – إجادة القارئ وإتقانه بما يجعل حاجته لحفظ وقته بالسُّكوت عن التَّعليقات أولى بكثير من التَّعليق على أمر يغلب على الظَّنِّ تمكُّنه فيه.

2 – خوف المعلِّم من تشتُّت القارئ بسبب كثرة المداخلات، وهذا مسلك غير مقبول، خاصَّة مع طلَّاب الإجازة والرِّواية، فالرَّدُّ والتَّصويب متعيِّن على الفور لا على التَّراخي، ومع الاستمرار يتعوَّد القارئ على منهج الشُّيوخ وطريقتهم.
3 – وقوع الطَّالب في خللً فنِّيٍّ لا يعلمه المعلِّم ولم يدخل في نطاق خبرته الأدائيَّة والمهاريَّة؛ فالقرَّاء متفاوتون في العلم والخبرة والدِّراية؛ قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: ٧٦] ويقول أبو مزاحم الخاقاني:
فما كلُّ الذي يتلوا الكتاب يُقيمه
     وما كلُّ من في النَّاس يقرئهم مقري
4 – انعدام الاستماع الجيِّد لما قرأه الطَّالب، خاصَّة إذا كان التَّعليم عن بُعد مع تقطيع في الشَّبكة، ورداءة في الصَّوت، والواجب على المقرئ استفهام الطَّالب وطلب إعادته للمقطع السَّاقط من السَّماع؛ فالأمر أمانة وديانة.

والخلاصة: إنَّ وقوع الخلل في مجلس رواية القرآن الكريم بالإسناد المتصلِّ من خلال انعدام التَّفاعل والتَّعليق والسُّؤال من قِبل الطَّرفين أمر لا يتناسب مع أمانة المجلس، وتاريخ المقرئين والقرَّاء، وقانون الرِّواية، ومهمَّة الإقراء؛ وهو دالٌّ على ضعف مستوى المقرئ، أو عدم أمانته، أو عجلته في إنهاء الختمة، وكذلك عدم التَّحري من الطَّالب، والواجب انتفاء كلِّ هذا؛ ليكون مجلس القرآن عامرًا نافعًا، موصِّلا إلى الإتقان والإجادة.

           وحرَّره
           أبو عمر الأزهريُّ
          عميد المعهد القرآنيِّ العالي
         حامدًا ربه ومُصليًا على نبيِّه ﷺ.

You may also like

Leave a Comment

المعهد القرآني العالي هو مؤسسة تعليمية متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم ومدارسته، ملتزمة بتخريج طلاب متمكنين في تلاوة وحفظ الكتاب العظيم وفق أحكام التجويد.

يسعى المعهد إلى تعزيز فهم الطلاب للقرآن من خلال دراسات معمقة تشمل التفسير والعلوم القرآنية، مما يمنحهم بصيرة أعمق في معاني الآيات الكريمة.

يقدم المعهد بيئة تعليمية داعمة ومشجعة، حيث يتم التركيز على تنمية الروح الإيمانية والأخلاق الحميدة لدى الطلاب، مما يساعدهم على تطبيق تعاليم القرآن في حياتهم اليومية.

Edtior's Picks

Latest Articles

المعهد القرآني العالي – جميع الحقوق محفوظة © ٢٠٢٤