السبت, أكتوبر 26, 2024
Home » شبهة: تجميد العمل القرآنيِّ في الأزمان والأماكن الفاضلة

شبهة: تجميد العمل القرآنيِّ في الأزمان والأماكن الفاضلة

كتبه أبو عمر الأزهري


إن من نعم الله على العبد أن يُوفَّق لعمل الصالحات في كل زمان ومكان؛ فالعمل عند الصالحين ليس له وقت امتناع؛ فمن استطاع أن يعبد الله تعالى بصنوف الطاعات في عموم الأوقات فليفعل؛ فمن فتح له باب خير فلا ينبغي أن يُغلقه دون نفسه؛ فإنه لا يدري متى يُفتح له، ولا يعرف أرجى عمل ينجيه بين يدي ربه.

ولما كان المرء محاربًا من عدوٍّ متربِّص لم يسلم من تسلُّط عدوه عليه بالغواية والإضلال والتثبيط؛ فتارة يأتيه الشيطان ليُبغِّضه في باب من أبواب الطاعة، أو ليُخرجه من عمل صالح تلبَّس به وانتفع، أو ليُثبطه عن فعل جميل يُحبُّه الله ويرضاه؛ كل هذا بهدف إشغال المرء وتشتيته لئلا يستمر على العمل الصالح الذي به نجاته.

ومن أنفس العبادات وأعلاها وأزكاها ما يتعلق بالقرآن الكريم من حفظ وتلاوة وتدبر ومعرفة؛ لأن كل عبادة تقتبس مكانتها من مكانة مصدرها وأثرها؛ فأعظم العبادات ما كان متعلقا بالله تعالى تعلقًا مباشرًا كالعبادة بالذكر والدعاء؛ ومن أعلى ما يتعلق بالذكر التقرب إلى الله تعالى بكلامه؛ فهو في قمة العبادة الإيمانية التي تُحدث في النفس أثرًا لا يمكن لعبادة أخرى أن تقوم به؛ لذا حثَّنا الإسلام على التمسك بالقرآن الكريم، والاتصال الدائم به؛ لما فيه من هدايات وأنوار وبركات.

وإذا كان التعلق بالقرآن الكريم حفظًا، ولفظًا، وأداءً، ومعرفة منت أفضل العبادات فإنه لا يرتبط بوقت، بل يُطلب لذاته في كل وقت، غير أنه يعظم ثواب فاعله في الأوقات الفاضلة كالاتصال بشهر رمضان، والأماكن الفاضلة كالاتصال به في مكة والحرم؛ فإن التمسك بالقرآن الكريم في هذه الأحوال مما يحرص عليه كل موفق هداه الله تعالى وشرح صدره.

ومما يُفسد على الناس قلوبهم ما يقذفه الشيطان في قلب العبد من شبهة تجميد التعلق بالقرآن الكريم من خلال التعلُّم والدراسة في الزمان والمكان الفاضلين بحجة التفرغ للعبادة والطاعة، وهذه الشبهة من تلبيس إبليس؛ لأنه يتعامل مع الإنسان بالمكر والحيلة والدهاء والمخادعة، فقد أيقن أنه لا سبيل لصرف المسلم عن القرآن الكريم إلا بالدخول من مسار اغتنام الأوقات في عبادات يُمنيه بها ثم يعجز عن الوفاء بها، فيتحقق للشيطان ما سعى إليه من توجيه العبد إلى توقيف الاتصال بالعبادة المستمرة الحالية لإشغاله بعبادة مستقبلية؛ بغية ترك العبادة الحالية مع العجز عن الوفاء بالعبادة المستقبلية؛ فتتحقق الخسارة للعبد ويقعد عن العبادة.

وهذا المسلك لا ينطلي على العقلاء المؤيَّدين بالحكمة والرزانة وحسن النظر في الأمور، فإن العاقل لا يُغلق باب طاعة متن أنفس الطاعات من أجل طاعة لا تُقارن بالمتروكة فضلا وأجرًا وأثرًا وتعلُّقًا، بل يحرصون على ديمومة الطاعات العظيمة، والثبات على ما فُتح لهم فيه باب، ووجدوا من الله تعالى عونًا عليه، فلا يغلقون باب تعلم القرآن في شهر رمضان بغية الاستفادة من الوقت في الصلاة والدعاء؛ فإن التعلُّم طاعة من أنفس الطاعات وأجلِّ القربات، بل يُجدولون أوقاتهم للمحافظة على التعلُّم، مع صرف وقت لأكثر من طاعة في الوقت ذاته، لكنهم لا ينزعون من التعلُّم من أجل إحداث طاعة وقتية تزول بزوال الدافع إليها.

إن انصراف المسلم من البيئة التعليمية القرآنية في نهار رمضان مسلك من مسالك الشيطان يقصد من خلاله إلى إحداث فجوة بين المرء والقرآن الكريم؛ للوصول إلى النزوع والترك والشعور باليأس والملل؛ لأن البعد عن العمل القرآني يُحدث في النفس نفورًا من العمل، ويُسهِّل الوقوع في النسيان والهجر؛ فينتج الخمول والبعد كأثر من آثار الانصراف.

ومما ينبغي معرفته أن كل الطرق توصِّل إلى الله تعالى، وطريق القرآن الكريم أسرع وأسلك طرق الرضا والنعيم، وكل لحظة يقضيها المرء مع القرآن الكريم تكتب له بها الأجور العظيمة، وتثبت بها أقدام المرء على طريق السعادة، فمعالجة الحفظ والمراجعة والتجهيز والتحضير لمراحل العمل، والعرض على الأستاذ والقرين والنفس مما يرتقي بالنفس في مدارج الكمال والهداية والثواب الأعظم؛ من هنا وجب على كل من يُنادي بتجميد العمل القرآني في الزمان والمكان الفاضلين بهجر هذه الشبهة المشبوهة، مع الاجتهاد في العمل القرآني في مواسم الخيرات، وأزمنة البركة، وأماكن الهداية؛ فإن التمسك بالقرآن الكريم فيها سرُّ سعادة السعداء، وهجره فيها مكمن تعاسة الأشقياء.

وعلى المسئول عن العمل التعليمي القرآني أن يُوجِّه الأفراد إلى هذه المعاني حين يُطالبونه بمضمون هذه الشبهة، مع التوضيح والتحفيز والتوجيه إلى الثبات؛ فإن آنس إصرارًا ورغبة قوية لأسباب وجيهة أو شبه وجيهة فعليه أن يتدرج معه من خلال السماح بالإعفاء من الجديد دون المراجعات، أو الاكتفاء بحضور نصف الوقت المقرر يوميا، أو الحضور الانتقائي من خلال الإعفاء من أيام دون أيام؛ ويتدرج المسئول مع الطالب ليصل إلى ما يمكن التفاوض عليه، ليكون الإعفاء الكامل بالنزول على رغبته والموافقة على طلبه آخر الخيارات المسموح بها، مع أخذ العهد عليه بالمراجعة المستمرة لئلا يقع النسيان والتفلُّت، مع إخباره بالاستعداد لاختبار قوي ينعقد له فور انتهاء مدة الإعفاء المقررة بداية ونهاية؛ حرصًا على ثبات مراجعاته.

          وحرَّره
           أبو عمر الأزهريُّ
          عميد المعهد القرآنيِّ العالي
        حامدًا ربَّه ومُصليًا على نبيِّه ﷺ.

You may also like

Leave a Comment

المعهد القرآني العالي هو مؤسسة تعليمية متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم ومدارسته، ملتزمة بتخريج طلاب متمكنين في تلاوة وحفظ الكتاب العظيم وفق أحكام التجويد.

يسعى المعهد إلى تعزيز فهم الطلاب للقرآن من خلال دراسات معمقة تشمل التفسير والعلوم القرآنية، مما يمنحهم بصيرة أعمق في معاني الآيات الكريمة.

يقدم المعهد بيئة تعليمية داعمة ومشجعة، حيث يتم التركيز على تنمية الروح الإيمانية والأخلاق الحميدة لدى الطلاب، مما يساعدهم على تطبيق تعاليم القرآن في حياتهم اليومية.

Edtior's Picks

Latest Articles

المعهد القرآني العالي – جميع الحقوق محفوظة © ٢٠٢٤