الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد: فإن الإتقان والإجادة لا تُحصَّل إلا ببذل الأسباب التي تتضافر لتكوِّن كتلة تساعد الحافظ على تحقيق الاستظهار والثبات للمحفوظ، وأيسر طرقها المراجعة، ومن هذا المنطلق أوصي الحافظ المبارك أن يلتزم بينه وبين نفسه بما يلي:
أوَّلًا: ورد قرآني ثابت؛ وهذا من أهم ما يَعِين الحافظ على ثبات الحفظ والاستظهار، فكثرة المراجعة تجعل القرآن كالفاتحة، وصاحب الخمس لا ينس، وصاحب الثلاث قد يعرض للإفلاس، والمؤمن الذي أتم الله عليه النعمة بحفظ الـقـرآن الكريم يحتاج دائما إلى مراجعة هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ وذلك لأن الحافـظ إن ترك المراجعة أو غاب عنها أُخذ من حفظه على قدر تقصيره وإهمالـه، فليس مـن هجـر كمن تهاون وإن كانا قد اشتركا في أصل المخالفة، لكنهما تفاوتا في مقدارها، ومن عظم أمانة النبي أن بلغنا القــرآن الكريم كما أوحاه الله إليه مـن غير زيادة ولا نقصـان، ولم يكتف بذلك بـل أمــرنا بقراءته وحفظـه، ولعلمه بأن التقصيـر ملازم للإنسان فقـد حذرنا من الإهمال فيه ونسيانه بعد حفظه، وأرشدنا إلى العلاج بكل أمانة وإخلاص فقال: «تعاهدوا هـذا القرآن فو الذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقالها» (١) قال الحافظ ابن عبد البر: وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه ذهب عنه أي من كان لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة. (٢) ولقد شـدد في التحذير مـن عدم المراجعة فقال : «عرضت علي ذنـوب أمتي فلم أر ذنبا أشد وأسـوأ من رجل آتاه الله آيـة من القرآن أو سورة من القرآن فنسيها» (٣) لهذا كـان لا بـد مـن الاهتمـام بالمراجعات؛ فليتق الله كل من هجر القرآن وترك مراجعاته.
ثانيًا: تخصيص ورد للاستماع لحاذق ماهر يجد المرء من نفسه قبولا وارتياحا نفسيا لصوته، ويُفضَّل أن يكون من المتميزين في القراءة والأداء؛ ليحصل بالاستماع إليه استفادة المستمع في الحفظ واللفظ والأداء، فإن للاستماع أثرًا كبيرًا في تثبيت المحفوظ؛ لذا أنصح الفضلاء من حفظة القرآن الكريم أن يُخصِّصوا لأنفسهم حزبا ثابتا من كتاب الله تعالى يسمعه يوميا؛ ليتمم حفظه كله بالسماع، وأفضل أوقات تنفيذ ورد الاستماع قبيل النوم حين يأوي المرء إلى فراشه استعدادا للنوم؛ ليكون آخر عهده بالدنيا الاستماع إلى القرآن الكريم؛ تعبدا بغية الإتقان والتثبيت.
ولا أنصح بتفعيل ورد الاستماع في وقت انشغال الإنسان وتشتُّت باله، وعدم تركيزه في النص الذي يستمع إليه، فالمقصد من الاستماع حصول الاستيعاب من خلال الفهم، وتحقق وضوح الكلمات، ومحاولة الحافظ العمل على الفهم والإدراك لمضمون الآيات، عن طريق الإنصات الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] فليكن لك رحلة سماعية تمر من خلالها على كامل محفوظك؛ وأنصح باعتماد مصحف الشيخين الكبيرين محمود خليل الحصري ومحمد صديق المنشاوي؛ لما يتحليان به من براعة في الأداء، وإحساس في المعاني؛ وإن شئت غيرهما فلا بأس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: (فضائل القرآن) باب: (استذكار القرآن وتعاهده) برقم: (5031) برقم: (5032) برقم: (5033) ومسلم كتاب: (صلاة المسافرين وقصرها) باب: (فضائل القرآن وما يتعلــق به ـ باب الأمر بتعهد القرآن) برقم: (789) برقم: (790).
(٢) يُنظَر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد؛ للحافظ أبي عمر بن عبد البر المالكي (14/134).
(٣) ضعيف (منقطع): أخرجه أبو داود في سننه كتاب: (الصلاة) باب: (في كنس المسجد) برقم (461) والترمذي في جامعه أبواب: (فضائل القرآن) باب: (19) برقم: (2916) ثم قال: هذا حديث غـريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال النووي في الروضة: في إسناده ضعف. قال ابن حجر الهيتمي: ومراد النووي بقوله: في إسناده ضعف. أي: انقطاع، لا ضعف في الراوي الذي هو المطلب؛ لأنه ثقة كما قاله جماعة، لكن قال محمد بن سعيد: لا يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل عن النبي ﷺ كثيرا وليس له لقي.
وبيَّن الدارقطني أن فيه انقطاعا آخر: وهو أن ابن جريج راويه عن المطلب المذكور، لم يسمع من المطلب شيئا، كما أن المطلب لم يسمع من أنس شيئا، فلم يثبت الحديث بسبب ذلك. انظر الزواجر صـ: (259).